بعد أن أنهيتُ كل الكلمات بداخلي وأمتُها فوق الأوراق، بعد ما كان نبضها يعصف قلبي وتهتاجُ روحي ببحارها وأوزانها وتفعيلها، هكذا رميتُ بها من سطح جوفي وكأنه عرسٌ للمنتحرين يتسابقون إلى الورقة وكأنهم قد تخلصو مني أخيرا، فقد كنت رغم وسع جوفي وخيالي سجن لهم، فإن الحروف لا يحدها حد مهما إتسع وإن كان الكون وما خلفه، وإن كان الخلقُ بعينه فأصل كُن كلمة.
هكذا إذا تسافر حروفنا وتتركنا، وكأني أب يودع إبنته في ليلة زفافها أو عاشقُ تتركه حبيبتهُ، فإن كانت تصارعني على مد القلم وخطها فوق أي شئ لتموت هناك ! لماذا يريد الحي الموت وكل شئ في الحياة بفطرته يصارع لنجاته ؟ أم موتها حياة لها .. لكنه خسارة لي دائماً.
بعد ما إنتهت مني وصرت جوف قارب بثقب لا يراه إلا بحر الحياة، حادثتُ شاعر عَلَى بعض من كلماته تخونه وتنام معي فأملك قصيدة منه تشاركني وحدتي وتملئ ما تركني، لكن لا شئ، فذهبتُ لمفكر وروائي وحكيمٍ وأعدتُ قرأة كل مكتبتي ولا شئ، وقد مرت السنين وأنا الفقيد وقد أخذني الحنين لهم، كم كانت صراعاتهم وحواراتهم تنهك يومي وكم كان شوقي للحبيبة يعذبهم، وكم كان الوطن يشفيهم ويبكيهم، كنت لا أنام إلا على أصواتهم، صراخٌ وضحكٌ وأنين وتفكير وأحياناً كثيرة مجرد فراغ من صخبهم الصامت.
إن الحياة لا تجعل منك كاتب ولا شاعر ولا الإلهام ولا الوحي ولا الخمرة، بل الكلمة إن إختارت صاحبها ضاجعته وإستحوذت وإستبدت في أمره وأمكنت نفسها عليه حتى يغرق ويلفظ أنفاسه بين الكلمات والنصوص حد الجنون، هنا تعلم بأنك قد حزت خاتم النبوة السفلية، وإرتديت ثوب الشعور، فكل البشر يكتبون ويتحدثون شعرا، فأترك القلم لهم وخذ حضن ح ر ف جذراً فأنت تبصر بالكلمات وغيرك يرى الكلامات فقط.
Comments
Post a Comment